تفسير سورة التكوير
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
--------------------------------------------------------------------------------
يسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
هذه سورة التكوير يبين الله -جل وعلا- فيها حال الخلق حين تقوم الساعة، وقد جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي العين فليقرأ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ و إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ و إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وهذا الحديث حسنه بعضهم، ولكن الظاهر أنه حديث لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن راويه عن عبد الله بن عمرو -وهو عبد الله بن يزيد الصنعاني- لم يتأهل لمثل رواية هذا الحديث عن عبد الله بن عمرو، والصواب أنه حديث لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وهذه السورة قرئت عند أبي الوفاء ابن عقيل، فسأله سائل فقال له: هب أن الله -جل وعلا- بعث الخلق وجازاهم، فلماذا يكور الشمس، ويذهب النجوم، ويسير الجبال. .. إلى غيرها؟ فأجاب عنه ابن عقيل بأن الله -جل وعلا- خلق هذه الدار، وخلق لها سكانا، فلما ذهب أهلها خربت، وكذلك الله -جل وعلا- خلق هذا الكون؛ ليستدل به العباد على الله -جل وعلا-، فإذا كان يوم القيامة فإن هذا الكون يخرب وما فيه؛ ليظهر الله -جل وعلا- للملحدين والكافرين أن هذه النجوم التي كانوا يعبدونها، أو الشمس التي كانوا يعبدونها، أو الحجارة التي كانوا يعبدونها من دون الله -جل وعلا- أنها ذهبت وتلاشت، ولم يبق إلا الله -جل وعلا- ليستدل به على أن الله -جل وعلا- هو مدبر هذا الكون وما فيه .
قال الله -جل وعلا-: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ يعني: أن الشمس يوم القيامة تكور وتلف كما تلف العمامة، فيذهب ضوءها، ثم بعد ذلك تلقى في النار، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح البخاري أنه قال: الشمس والقمر يكوران يوم القيامة وجاء من طريقين آخرين في غير صحيح البخاري من حديث أبي هريرة، وأسانيدها ظاهرها الصحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الشمس والقمر ثوران في النار، عقيران يوم القيامة معناه: أنهما يكونان كالثورين المجروحين، إذا ألقي بهما في النار يوم القيامة .
والله -جل وعلا- قد بين معنى هذه الآية وأن الشمس يذهب ضوءها في قوله -جل وعلا-: فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فهما يجمعان ويلقيان في النار، قد جاء ذلك عن غير واحد من السلف .
ثم قال -جل وعلا-: وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ معناه: أن النجوم تتساقط وتنتثر، كما أخبر الله -جل وعلا- في قوله: وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ .
ثم قال -جل وعلا-: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وقد تقدمت هذه الآية. وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ يعني بالعشار: الإبل التي تكون الواحدة منها قد بلغت عشرة أشهر في حملها، فإن العشار جمع عشراء؛ والعشراء: هي الناقة الحامل إذا بلغت عشرة أشهر تسمى عشراء، حتى تضع ما في بطنها بتمام العام، قال الله -جل وعلا- في هذه الآية: وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ يعني: أن أهل هذه الإبل يعطلونه، ولا ينتفعون بها؛ لأنهم قد جاءهم ما يشغلهم من الأمور العظام .
ونبه الله -جل وعلا- بالعشار؛ لأنها كانت أموالا نفيسة عند العرب، ويحتمل -كما دل عليه ظاهر هذه الآية- أن الناس يعتنون بها في آخر الدنيا، حتى يتحقق ما قاله الله -جل وعلا- في هذه الآية .
ثم قال -جل وعلا-: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ أي: أن الوحوش التي في الصحاري تنفر من الناس، لا يستطيعون إمساكها إلا بشق الأنفس، يجمعها الله -جل وعلا- إذا قامت الساعة؛ لأن الله -جل وعلا- يجمع الخلائق كلهم، كما قال الله -جل وعلا-: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ .
ثم قال -جل وعلا-: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ يعني: أن البحار يوم القيامة تسجر، ويوقد عليها حتى تكون نارا، وهذا كما قال الله -جل وعلا- في سورة الطور: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ؛ لأن هذه البحار يوم القيامة ينفجر بعضها على بعض، وتكون شيئا واحدا ويزول الحاجز الذي جعله الله -جل وعلا- بينها، كما في قوله -تعالى-: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ فإذا انفجر بعضها على بعض أججها الله -جل وعلا- نارا، وتفجير بعضها على بعض سيأتي في سورة الانفطار -إن شاء الله-.
ثم قال -جل وعلا-: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ أي: أن كل نفس تجمع إلى نفسها التي تشاركها في الصفة، فيجمع أصحاب اليمين إلى أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال إلى أصحاب الشمال، والمقربون يجمعون بعضهم إلى بعض، كما قال الله -جل وعلا-: وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ وقال -جل وعلا-: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فكل رجل وكل امرأة يجمع إلى من يشاركه في الأوصاف؛ فالمؤمنون يجمعون إلى المؤمنين، والمنافقون يجمعون إلى المنافقين، والكفار يجمعون إلى الكفار، يقرن بين كل نفس وأخرى .
وقد جاء في حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: وإذا النفوس زوجت: الضرباء يعني: الأصناف؛ كل رجل يجمع إلى كل قوم يعملون عمله وهذا الحديث أورده الحافظ ابن كثير وسكت عليه، وهو حديث ضعيف لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ في سنده الوليد بن عبد الله بن أبي ثور، وهو رجل ضعيف، ولكن السلف، كثير من السلف على تفسير هذه الآية بما تقدم .
ثم قال -جل وعلا-: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ العرب كانوا في الجاهلية يئدون البنات، بمعنى: أنهم كانوا يدفنونهن وهن أحياء، فحرم الله -جل وعلا- ذلك عليهم؛ لأنه لا يحل أن تقتل نفس إلا بحق، وهذه نفس قتلت بغير حق، ولبشاعة هذه الجريمة سواء في تنفيذها، أو في الباعث عليها، فإن الله -جل وعلا- يسأل أصحابها يوم القيامة سؤال تبكيت+ وتقريع لهم على رءوس الأشهاد؛ لأنهم لا جواب عندهم، والله -جل وعلا- لا يسألهم سؤال المستعلم؛ لأنه يعلم ذلك، وإنما يسألهم -جل وعلا- ليقرعهم ويوبخهم في ذلك اليوم العظيم؛ كما قال الله -جل وعلا- في سورة المائدة: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ فالله -جل وعلا- لا يسأل عيسى ابن مريم يوم القيامة سؤال استعلام واستخبار، وإنما يسأله -جل وعلا-؛ ليقيم الحجة ويقرع ويوبخ أولئك الذين عبدوا عيسى - عليه السلام -.
والعرب بين الله -جل وعلا- سبب وأدهم للبنات في سورة النحل، في قوله -جل وعلا-: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ فهم كانوا يرون البنت عارا على أهلها، فيئدونها من أجل ذلك، وذكر بعض العلماء -أيضا- أنهم كانوا يئدون البنات، وربما الذكور معهم لأمر آخر وهو خشية الفقر، كما قال الله -جل وعلا-في سورة الأنعام: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وقال -جل وعلا- في سورة الإسراء: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا .
ثم قال -جل وعلا-: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ يعني: أن الصحف يوم القيامة -صحف العباد- تنشر؛ ليراها كل عبد، ويقرأ ما فيها؛ لتقام عليه الحجة، والحجة قائمة ببعث الأنبياء والمرسلين، ولكن هذا من عدل الله -جل وعلا- وهذه الآية كما قال الله -جل وعلا-: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا .
ثم قال -جل وعلا-: وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ يعني: أن السماء يوم القيامة تكشط، وتنزع كما ينزع الجلد من الشاة، وقد تقدم بيان ذلك في سورة النبأ.